
“اسمي عمر شريف، طبيب مصري، ليه أنا كدكتور قررت أسيب مصر وأروح أشتغل في أفريقيا؟ ببساطة، لأن في مصر مش عارف أعمل أي حاجة، ولا عارف أذاكر، ولا أعيش، حياتي كلها شغل من غير مقابل حقيقي.”
هكذا عبّر الطبيب عمر شريف، في فيديو متداول على تطبيق “تيك توك”، عن تجربته الشخصية المؤلمة التي دفعت به إلى خارج الحدود.
ويضيف الدكتور عمر، الذي كان يعمل في مستشفى حكومي، أنه كان يضطر للعمل نبطشيات تمتد لـ24 ساعة متواصلة، وأحيانًا 12 يومًا في الأسبوع، دون أي تقدير أو مقابل مادي يُذكر، مادفعه لترك العمل هنا والفرار بحثا عن حياة، حيث ختم الفيديو برسالة للشباب “إنت بتدفن نفسك جوا مصر، اطلع بره البلد دي لأنها هتدمر مستقبلك”
لخص الطبيب معاناة آلاف الأطباء المصريين، الذي أصبح قرار الهجرة بالنسبة لهم ليس خيارًا، بل مهربًا أخيرًا من واقع قاسٍ يلتهم أحلامهم قبل أن تبدأ.
قصة الطبيب عمر لم تكن استثناء، بل تمثل نموذجًا متكررًا للعديد من الأطباء الذين يحاولون العيش في ظل العديد من الظروف التي تجبرهم على الهجرة .
لا تقف تجربة الطبيب عمر شريف وحدها، إذ تؤكد البيانات الرسمية أن هجرة الأطباء المصريين تشهد تصاعدًا ملحوظًا في الأعوام الأخيرة.
ففي عام 2022 وحده، تقدّم أكثر من 4,200 طبيب باستقالاتهم من القطاع الحكومي، وفقًا لإحصائيات نقابة الأطباء، وهو أعلى رقم مُسجل منذ سنوات.
وفي النصف الأول من عام 2023، بلغ عدد الاستقالات أكثر من 2,600 طبيب، مما ينذر باستمرار نفس المعدلات أو زيادتها.
وتُشير تقديرات النقابة إلى أن عدد الأطباء العاملين فعليًا داخل مصر لا يتجاوز 60 ألف طبيب، في مقابل أكثر من 212 ألفًا مسجلين في الجداول، ما يعكس نزيفًا حادًا في الكوادر.
ظروف قاسية
لا تُختزل أزمة هجرة الأطباء في مجرد “رغبة في السفر”، بل هي انعكاس مباشر لجملة من التحديات المتراكمة التي تواجه العاملين بالقطاع الصحي في مصر، على رأسها ضعف الرواتب.
إذ يتقاضى الطبيب حديث التخرج في مستشفى حكومي ما بين 3,000 إلى 4,000 جنيه شهريًا، وهو مبلغ لا يغطي الحد الأدنى من متطلبات المعيشة في ظل التضخم المتسارع.
وإلى جانب الأجر الزهيد، يتحمّل الأطباء ساعات عمل مرهقة تمتد لأكثر من 24 ساعة في بعض النبطشيات، دون وجود تأمين نفسي أو بيئة عمل داعمة، ما يتركهم عرضة للإرهاق البدني والانهيار النفسي.
كما تشكو نسبة كبيرة من الأطباء من ضعف التقدير المعنوي، خاصة في ظل تزايد الاعتداءات على الطواقم الطبية داخل المستشفيات، في غياب قوانين رادعة أو دعم مؤسسي فعّال.
كل هذه العوامل مجتمعة لا تخلق فقط “بيئة طاردة”، بل تفتح أبواب الهجرة على مصراعيها أمام من يستطيعون اللحاق بفرصة في الخارج، مهما كانت الوجهة.
المُنقِذ المُتَّهم
أثناء ذروة جائحة كورونا، ارتفعت الأصوات مشيدة بدور الأطباء، الذين وُصفوا بـ”جيش مصر الأبيض”، وتحوّلت صفحات التواصل الاجتماعي إلى منصات دعم واحتفاء.
لكن هذا التقدير لم يدم طويلًا؛ إذ سرعان ما تبدّلت النبرة، خاصة مع حملات إعلامية ركزت على بعض الأخطاء الطبية الفردية، وقدّمت صورة مشوهة للمهنة.
وتحت تأثير هذه الحملات، بدأ بعض أفراد المجتمع ينظرون إلى الأطباء باعتبارهم “باحثين عن المال”، أو “مقصرين”، وهو ما شكّل ضغطًا نفسيًا مضاعفًا على العاملين بالقطاع، خاصة في ظل غياب الدعم المؤسسي أو الدفاع الإعلامي عنهم.
تهجير مُقَّنع
ما بين طموح مهني مشروع، وظروف حياة ضاغطة حدّ الاختناق، يقف الطبيب المصري أمام مفترق طرق، لا يملك فيه رفاهية الاختيار بقدر ما يُدفع إليه دفعًا، القصة التي بدأت بالدكتور عمر شريف لم تكن استثناءً، بل كانت مرآة لواقعٍ يعيشه آلاف من زملائه.
ما قاله عن الإرهاق ونقص التقدير وتردي الظروف المعيشية ليس مجرد تذمر فردي، بل هو صدى جماعي لمأساة مهنية تتكرر كل يوم داخل المستشفيات، وعلى أرصفة الانتظار في النقابات، وفي صمت من اختاروا المضي نحو المجهول.
إن الدولة لا توفر الحد الأدنى من بيئة عمل إنسانية، ولا من مقابل مادي يكفي لكرامة الطبيب، الذي يقضي يومه بين غرفة الطوارئ والعيادة والنبطشيات، ثم يعود ليكمل دراسة أو يحاول أن يعيش.
وفي مقابل هذا النزيف المستمر، لا نرى تحركًا حقيقيًا لوقفه، وكأن خروج الكفاءات أمرٌ عابر، لا يُهدد مستقبل القطاع الصحي ولا حياة المرضى.
في الحقيقة، حين يُدفع الطبيب دفعًا إلى الرحيل، بسبب ما يراه من تهميش وقسوة وتجاهل، لا يمكن وصف قراره بأنه “هجرة” فقط؛ بل هو “تهجير” مقنّع، لا يختلف كثيرًا عن الطرد، وإن غلفته أوراق السفر وتأشيرات العمل. إنه نزيف لا يصاحبه دم، بل غياب، وغياب الأطباء هو غياب الأمان الصحي، وغروب ضوء كنا نظن أنه باقٍ.