لم يعد العالم أُحادي القطب، والهيمنة الأمريكية التي كانت تشكل أساس التجارة والأمن العالميين تتلاشى.

تشير حروب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التجارية بما في ذلك الرسوم الجمركية التي فُرضت في أبريل 2025 والتي أخلت بنظام التجارة في العالم، إلى تفكك متعمد للنظام الاقتصادي الذي ساد بعد الحرب العالمية واشتعال حرب تجارية بين الصين وأمريكا لإثبات من سيحكم العالم إقتصاديًا.

تواجه أوروبا العالقة في المنتصف سؤالًا مُلحًا، هل تتحالف مع الولايات المتحدة وتتقبل مطالبها بتجارة متوازنة والاعتماد على الذات عسكريًا، أم تنجرف نحو الصين مع وعدها بالوصول إلى الأسواق ولكن مع مخاطر التبعية.

ولكن مستقبل القارة لا يتوقف على اختيار جانب بل على صياغة دور مميز لها كلاعب عالمي.

يرى وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو أنه ليس من الطبيعي أن يكون العالم مجرد قوة أُحادية القطب، فإن ماحدث بعد الحرب الباردة كان شذوذ وكان لابد أن نصل لنقطة نشهد فيها عالم متعدد الأقطاب.

تحالفات اقتصادية عسكرية ربما تشمل كندا والمكسيك واليابان والهند بالنسبة لأوروبا تعني تعديلات مؤلمة ستحتاج فيها دولة مثل ألمانيا التي تعاني من ركود اقتصادي منذ 2023، وانقسامات داخلية إلى إصلاح نموذجها القائم على التصدير، والذي حقق فائضًا تجاريًا قدره 217 مليار يورو في عام 2024، وتعزيز الاستهلاك المحلي مع الاستثمار بشكل أكبر في الأسواق الأمريكية، مما يزيد من تبعيتها للولايات المتحدة وتحمل أعباء اقتصادية نتيجة الرسوم الجمركية المتزايدة.

عسكريًا، يتطلب اعتماد أوروبا على حلف شمال الأطلسي، المتوتر بسبب تشكك ترامب تجاه المادة الخامسة التي تطلب من الدول الأعضاء أن تأتي لمساعدة أي دولة عضو تخضع لهجوم مسلح، حيث يُعد الجيش الألماني الذي يضم 181 ألف فرد في الخدمة الفعلية، ومعدات قديمة مثال للإعتماد العسكري وعدم الاستعداد الفعلي في مواجهة تهديدات مثل روسيا.

على الجانب الآخر، تقدم الصين جاذبية اقتصادية فقد بلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي مع الصين 739 مليار يورو في عام 2024، مع توسع شركات صينية مثل BYD في التصنيع في المجر وإسبانيا، وتحظى “حملة بكين الساحرة” وهي سياسة تسمح للعديد من الأفراد (مواطني الاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص) بالبقاء في الصين لمدة تصل إلى 15 يوما دون تأشيرة باهتمام القادة الأوروبيين الحذرين من أمريكا.

ومع ذلك، فإن توثيق العلاقات ينطوي على مخاطر فالنموذج الصيني المُدار من قبل الدولة والذي شهد دعمها لـ 60% من إنتاج الألواح الشمسية العالمي في عام 2023، يهدد الصناعات الأوروبية، حيث أثرت جاذبية الأسواق الصينية على شركات مثل مرسيدس، المملوكة بنسبة 20% لمستثمرين صينيين، لمقاومة الحواجز التجارية، كما أن التوافق السياسي قد يحجم قيم الإتحاد الأوروبي بالنظر إلى دعم الصين لروسيا وسجلها في مجال حقوق الإنسان.

إن تصوير خيار أوروبا على أنه لعبة محصلتها صفر يتجاهل قدرتها على تشكيل النظام العالمي، حيث يعد الاتحاد الأوروبي ثاني أكبر اقتصاد في العالم بناتج محلي إجمالي قدره 18.4 تريليون يورو في عام 2024، وهو قوة تنظيمية عظمى تضع معايير عالمية في الإدارة والاستدامة.

ووفقًا لاستطلاعات رأي أجراها المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية عام 2023 يفضل 62% من الأوروبيين الحياد في الصراعات الأمريكية الصينية ويتماشى هذا الرأي مع رأي إيمانويل ماكرون الذي يدافع عن أوروبا كـ”قوة ثالثة” تتعاون مع كلا الجانبين دون تبعية.

لكي تقلل أوروبا من اعتماديتها على الغير يجب أن تنوع تجارتها، وتعمق علاقاتها مع دولة مثل الهند (المتوقع أن تنمو بنسبة 6.8% في عام 2025) ورابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) بالرغم من أن القدرة الشرائية في هذه المناطق ليست كالقدرة الشرائية في أمريكا والصين، مع تقليل اعتمادها على التكنولوجيا الصينية حيث لا تزال هواوي تزود أوروبا بـ 30% من البنية التحتية لشبكات الجيل الخامس (5G).

من الناحية الدبلوماسية يمكن لأوروبا أن تقود قضايا عالمية مثل التغير المناخي، حيث تتناقض أهدافها لتحقيق صافي انبعاثات صفري بحلول عام 2030 مع تراجع الولايات المتحدة من اتفاقيات تقليل الانبعاثات واعتماد الصين على الفحم.

إن اختيار الولايات المتحدة يهدد بعواقب اقتصادية إذ تلحق رسوم ترامب الجمركية خسائر بالصادرات الأوروبية بقيمة 100 مليار يورو متوقعة بحلول عام 2026 كما أن اختيار الصين يهدد بالتبعية وانعدام الأهمية الجيوسياسية، إذ أن الاكتفاء الذاتي لبكين بتصدير سلع بقيمة 3.4 تريليون دولار في عام 2024 يجعل أوروبا شريكًا ثانويًا لذلك يجب على أوروبا الاستثمار في نقاط قوتها فمن خلال التوسط في التوترات بين الولايات المتحدة والصين ودعم التعددية، يمكن للاتحاد الأوروبي تجنب التراجع وإعادة تعريف العالم متعدد الأقطاب.