في عالم يموج بالتغيرات المتسارعة، وحروب لم تعد تستهدف احتلال الأرض، ولا السيطرة من خلال الدبابات والطائرات، ولم يعد الاستعمار يفرض سيطرته بالقوة، ولا الساحات في المعارك ملطخة بالدماء، ولم تعد الأغلال من حديد، ولا هي حروب ظاهرة كالحروب العسكرية، ولم تعد المقاومة بالسلاح، بل باتت حروب ناعمة، تستهدف العقول.

صور الغزو الناعم

الحروب التي تستهدفنا في هذا الزمان هي حروب تقوم على طمس الهوية، السياسات التي تقوم عليها البلاد لم تعد ترنو إلى من سيقتحم ساحات المعارك ويحتل البلاد، لكنها تهدف إلى احتلال الوعي وتخدير العقول، والانسياق مع القطيع دون إعمالٍ للعقول.

“حروب الألفاظ” هذه الحروب وإن بدت في ظاهرها معارك لغوية، إلا أنها في جوهرها صراع وجودي يهدف إلى طمس الهوية وتشويه الحقائق.

“أوفا ريكس “

“ريكس” بمجرد قراءة تلك الكلمة أو سماعها أنت تتذكر الكلب ركس، الذي صورته لنا البلاد الغربية في الأفلام وبتنا نعلم جميعا أن ريكس هو حيوان وفي شجاع، وكل من امتلك كلبا يشبهه نطلق عليه هذا الإسم، لكن الكارثة الكبرى أننا لا نعلم أن ريكس هو إسم لرجل مسلم ملك بريطانيا “أوفا ريكس” الملك البريطاني المسلم، الذي وحد إمارات انجلترا قرابة الأربعين عاما، حاربته الكنيسة الكاثوليكية، وطمست تاريخه، وشوهت صورته، لأنه مسلم.

منتصف القرن التاسع عشر، تم اكتشاف دينار ذهبي في بريطانيا يحمل على جانبيه عبارة التوحيد بالله، والإيمان بالنبي محمد ﷺ، وظهر هذا الدينار مؤرخا بعام 157ه‍/ 774م، يعود هذا الدينار إلى الملك ريكس الذي عاش في النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي، أي قبل حوالي 1200 عام.

“خدوجة وذنوبة”

قبل بضعة أعوام كان بائع الأحذية ومن يرتدي حذاء يطلق عليه ذنوبة، وخدوجة ولكل منهما مواصفات خاصة مميز بها، وبات الجميع يستخدم هذه الكلمات دون فهم لما تؤول إليه الكلمة، والأصل أن هذه الكلمات أُطلقت للتقليل من أم المؤمنين وزوج رسول الله خديجة، وكذلك زينب، فهذه ألفاظ مهينة لرموز إسلامية واستخدمها المسلمون دون وعي ولا تفكر في الكلمات.

تسمية الأشياء بغير أسمائها

لكن السيطرة ليست فقط من خلال إطلاق الكلمات الخاطئة وتشويه الحقائق، بل قد يكون بتغيير مسميات الأشياء مع الإبقاء على المعنى الذي يصبح هين على النفس عند سماعه، وبضرب الأمثال تتضح الكلمات، فاستخدام كلمة المثليين لوصف من انتكست فطرته، والأشخاص الشواذ جنسيا، يجعلها مستساغه بين الناس، والآن أسألك عزيزي القارئ هل وقع كلمة شاذ جنسيا على مسمعك تجد نفس الصدى لكلمة مثلي بداخلك ؟!

ليس هذا فحسب بل سُمِّي الربا المحرم شرعا بالفائدة، لجعل التعامل به أمرا طبيعيا، والزنا بات يطلق عليه المساكنة، وسمي الخمر بالمشروبات الروحية، التبرُّج والسفور أصبح تحرر ورقي، لعب القمار يسمى بالحظ، الحجاب واللباس الشرعي رجعية وظلامية؛ لتنفر منه الفتيات والنساء، حتى الرشوة سُميت بالهدية والإكرامية، كل ذلك هدفه هو كسر حاجز الكلمة المنفر منها وتشجيعا على هذه الأشياء المحرمة دينيا والانسلاخ من الهوية الدينية.

السياسة وضياع المعاني

العالم لا يسير هباء ولا الكلمات تطلق عبثا، فكما قال أبو عمرو بن كلثوم العتابي، الألفاظ أجساد، المعاني أرواح، وإنما نراها بعين القلوب، لكننا في عالم لم تعد مفاهيمه ولا معانيه كما كانت عليه، فواقع اليوم مختلف بكل معانيه.

قتل الأبرياء أصبح عمل بطولي وأعمال دفاعية، كما نرى في أحداث “غزة”، ما يقوم به أهل فلسطين يصور لنا إعلاميا على أنه إرهاب وتخويف للمواطنين الإسرائيليين، أما ما يفعله الصهاينة من إجرام ودموية وإبادة جماعية بحقهم هو مجرد رد دفاعي على ما قامت به حماس، واعتقال الأبرياء بأقفاص حديدية وأسوار لا يمكن اختراقها، والتهجم عليهم في منازلهم وأماكن عملهم، واعتقالهم دون دلائل أصبح عمل وطني.

التضليل والإعلام

عندما تتبول السلطات على الشعوب يأتي دور الإعلام ليقنعهم أنها تمطر، هذا ما قاله تشي جيفارا، والواقع أن الإعلام حينما يتطلب منه التضليل فإنه يقوم بدوره على أكمل وجه، والتشويه للحقائق ليس فقط من خلال نقل الشائعات، بل بالانحياز في التغطية وإبراز جانب من الحدث وإخفاء الآخر، أو تسليط الضوء في إتجاه وتهميش الجانب الآخر، فالإعلام يجد طريقه للتضليل كيفما يشاء، وسلب عقول الناس وترسيخ الأفكار والمعتقدات الخاطئة ولاإراديا يجعلهم قادرين على إطلاق أحكام لا أساس لها من الصحة سوا أنها من صُنع الإعلام.

الإعلام لا يقتصر على مجرد كتابة خبر، ولا تقديم نشرة أخبار، الدراما جزء مهم في صنع الوعي وسلبه أيضا، أداة سياسية فعالة للغاية، من خلال مسلسل تستطيع ترسيخ صورة حاكم بالبطل وإظهار آخر ببائع البلاد، تجعل الدراما من الرجل مرشدا عن أخيه ومبلغا عنه بتهمة “الإرهاب” الذي صورته له الدراما، لمجرد أنه أطلق لحيته، فكل إرهابي ملتحي بالمسلسلات والأفلام، حتى أن المرأة المنتقبة هي رمز للخائنة والمستترة خلف النقاب عن أعمالها الشيطانية، وأيضا هو شئ يستتر وراءه الرجال المجرمون في الدراما.

الإعلام من خلال صورة يستطيع خلق رأي عام مشوه، يتناسب مع أفكاره ومعتقداته، فالإعلام ليس دائما صوت الحقيقة، بل قد يكون صوت للأكاذيب وتصبح الحقائق ضحيته.

الوجه الآخر لحروب الألفاظ

حروب الألفاظ تطمس الهوية للأفراد والمجتمعات، فتفقدهم الإنتماء وتزييف التاريخ، وتشويه الذاكرة الجماعية مما يفقدهم الشعور بالهوية الوطنية، وفرض ثقافة دخيلة وتهميش للقيم والمعتقدات، في النهاية تخلق أجيالا مشوهة غير قادرة على التواصل مع تراثها الثقافي وعاجزة عن التمييز بين المزيف والحقيقي، فاقدة للشعور بالإنتماء.

حروب الألفاظ هي معركة وجودية تتطلب منا جميعا الوقوف صفا واحدا للحفاظ على هويتنا، فالهوية ليست مجرد كلمات، بل هي جوهر وجود، ورمز انتماء، وعنوان مستقبل.