
الساعة الآن السابعة صباحا، أقف في شرفة منزلي، أنظر إلى يميني أجد طفل يرتدي الزي المدرسي ويتجه إلى المدرسة كل يوم، أنظر إلى يساري فإذا بغصة تعتلي صدري من حال الطفل الآخر صديق الطفل الذي يذهب للمدرسة، “يوسف “، وكأن القدر أراد لهذا الطفل أن يحمل من اسم النبي بعضا من تعب وعناء وشقاء رحلته.
يوسف طفل في الصف الثاني الإعدادي، من قرية صغيرة بمحافظة المنوفية، تنظر إليه للوهلة الأولى تشعر أنه رجل مسن من كثرة ما يحمله من هموم؛ يقف الصبي كل يوم ينظر إلى صديقه نظرة حسرة وشفقة على حاله فبينما صديق يوسف يرتدي الزي المدرسي، مهندم، يذهب للدراسة، على الناحية الأخرى نجد ملامح يوسف أطفأها التعب، لايملك رفاهية الحياة ، وملابسه تحكي عن أيام طويلة أسفل عجلات التوكتوك الذي يعمل عليه.
يوسف هو الابن البكر لأسرة فقيرة، يكبر ثلاثة إخوات، والده لايملك وظيفة، لكنه يلاحق لقمة العيش بين عمل هنا وعمل هناك بدون دخل ثابت يسد به رمق أطفاله، والدته تركتهم وتزوجت بشخص آخر، منذ هذا الوقت وترك يوسف التعليم وتفرغ لمساعدة أبيه في إعالة إخوته، حيث ترك حقيبته المدرسية، وبدل دفاتره بمفاتيح التوكتوك، وترك فصله وأصدقائه؛ ليواجه فصلا أكبر وهو فصل الحياة.
عمالة الأطفال
لم يكن يوسف هو الطفل الوحيد الذي ترك طفولته ومدرسته وأصدقاؤه خلفه لينخرط في الحياة العملية قبل أوانه، فهو والكثير من الأطفال في سنه تركوا طفولتهم ليستيقظوا في الصباح بحثا عن لقمة العيش في المصانع والورش والمحلات الصغيرة، وعلى أرصفة الطرق وإشارات المرور، يعملون محرومين من اللعب والدراسة.
هؤلاء الأطفال ليسوا مجرد حالات فردية، بل ظاهرة متنامية تعرف ب” عمالة الأطفال”.
عمالة الأطفال ظاهرة تشير إلى استغلال الأطفال في أي شكل من أشكال العمل مما يحرم الأطفال من طفولتهم، ويعيق قدرتهم على الذهاب إلى المدرسة، ويؤثر تأثيرًا ضارًّا عقليًا أو جسديًا أو اجتماعيًا أو معنويًا.
أرقام ومؤشرات
طبقا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، هناك انخفاض نسبي في معدلات عمالة الأطفال في مصر خلال السنوات الأخيرة، حيث بلغت نسبة الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و17 عامًا، والذين شاركوا في أنشطة اقتصادية أو أعمال منزلية، نحو 4.9% في عام 2021، مقارنة بـ7% في عام 2014. وتُظهر البيانات تفاوتًا بين الجنسين، حيث بلغت نسبة عمالة الأطفال بين الذكور 6.8%، مقابل 2.8% بين الإناث في نفس العام.
لماذا يعمل الأطفال؟
لايوجد طفل يرغب في أن يترك بإرادته حياة الطفولة من لعب ولهو وبراءة وينخرط في شقاء العمل وتحمل المسؤوليه، لكن هناك العديد من العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي تقف وراء تنامي هذه الظاهرة، وفي مقدمتها الفقر، إذ تضطر العديد من الأسر في إشراك أطفالها في العمل لتأمين الحد الأدنى من الاحتياجات اليومية، في ظل ظروف المعيشة الصعبة.
كما تعد الأمية وضعف الوعي من أهم الأسباب، حيث يفتقر بعض الأهالي إلى إدراك خطورة دفع أطفالهم للعمل مبكرًا، وما يمثله ذلك من تهديد لمستقبلهم الأكاديمي والنفسي.
ولا يمكن إغفال تأثير التفكك الأسري، مثل حالات الانفصال أو وفاة أحد الوالدين، وهي ظروف تدفع بالطفل إلى تحمل مسؤوليات أكبر من سنه، كما رأينا في حالة يوسف.
بجانب هذه الأسباب الثغرات القانونية وغياب الرقابة الصارمة على بيئات العمل، مما يسمح بتشغيل الأطفال في سن مبكرة، وفي ظروف غير آمنة أو غير آدمية في كثير من الأحيان.
آثار عمالة الأطفال
تعد عمالة الأطفال انتهاكًا قانونيًا يخلّف وراءه آثارًا عميقة تمتد إلى نفس الطفل وسلوكه ومكانه في المجتمع؛ فالطفل الذي ينخرط في بيئات عمل قاسية في سن صغير، غالبًا ما يفتقد الشعور بالأمان، ويعاني من ضغوط تفوق طاقته، مما يؤدي إلى اضطرابات نفسية مثل القلق، والاكتئاب، والشعور بالدونية.
اجتماعيًا، يعاني الطفل العامل من العزلة، حيث ينفصل مبكرًا عن أقرانه الذين يعيشون طفولتهم داخل المدارس والملاعب، ويجد نفسه في عالم الكبار دون سند أو توجيه. هذا الانفصال يُفقده مهارات التواصل، ويضعف من قدرته على بناء علاقات صحية مستقبلًا.
أما صحيًا، فكثير من الأطفال العاملين يتعرضون لإصابات بسبب الأعمال الخطرة أو بيئات العمل غير المؤهلة. كما يعانون من سوء التغذية والإجهاد المزمن، مما يترك أثرًا مباشرًا على نموهم الجسدي والعقلي.
وهنا، لا يكون الضرر لحظيًا، بل يمتد لسنوات، ليُنتج جيلًا يحمل آثار الطفولة المكسورة في وعيه وسلوكه وحتى في رؤيته لنفسه.
القوانين والتشريعات
تنص القوانين المصرية على حماية حقوق الأطفال، وخاصة في ما يتعلق بحمايتهم من العمل المبكر الذي قد يهدد مستقبلهم. وفقًا لقانون الطفل المصري رقم 12 لسنة 1996، يُحظر تشغيل الأطفال تحت سن 15 عامًا في أي نوع من الأعمال، ويُسمح فقط بعملهم في بعض الأنشطة التي لا تعرضهم للمخاطر أو تؤثر على نموهم البدني والنفسي.
بينما يحظر القانون الدولي ثلاثة أشكال من أنواع عمالة الأطفال، ويعد أسوأ أشكال عمل الأطفال ما يعرف دوليا بالاستعباد والاتجار بالبشر، أو العمل لسداد الدين وكل أنواع العمل الجبري، أو استخدام الأطفال في النزاعات المسلحة.
ومن أسوأ مجالات عمل الأطفال: الدعارة والاستخدام الجنسي والإباحي بكافة أشكاله. ويعدّ الاستخدام الجنسي للأطفال والمتاجرة بهم ثالث أعلى الأعمال إدرارا للربح، بعد تجارتي الأسلحة والمخدرات.
والنوع الثاني من هذه الأعمال، ما يؤديه الأطفال دون الحد الأدنى من السن الطبيعية للعمل، إضافة إلى الأعمال التي من شأنها إعاقة تعليمهم أو تمام نموهم.
ثم النوع الثالث والأخير، وهو العمل الذي يهدد الصحة الجسدية والفكرية والمعنوية للأطفال.
سواء كان ذلك بسبب طبيعة العمل أو البيئة والظروف التي يؤدى فيها، وهو ما يصطلح عليه بـ”العمل الخطر”.
ومع ذلك، يواجه تطبيق هذه القوانين تحديات عديدة، بما في ذلك غياب الرقابة في بعض المناطق الريفية، ووجود ثغرات قانونية تتيح استغلال الأطفال في بعض الأنشطة غير المنظمة.
يوسف ليس استثناء
حكاية يوسف، بكل ما تحمله من ألم وتناقض، ليست إلا وجهًا من وجوه ظاهرة تجتاح المجتمع المصري.
هناك آلاف من الأطفال في مختلف المحافظات يعيشون نفس المشهد اليومي: الاستيقاظ المبكر، العمل لساعات طويلة في بيئات مرهقة، وغياب شبه تام لأي دعم نفسي أو تعليمي.
ورغم أن القانون يجرّم تشغيل الأطفال ويضع شروطًا صارمة لحمايتهم، فإن الواقع يقول غير ذلك. ففي كثير من الحالات، يتحول الطفل إلى “عائل أساسي”، ويتلاشى حلم التعليم والطفولة في زحام التكاتك وورش النجارة والمزارع.
يوسف لا يعرف أن ما يعيشه “مخالفة قانونية” أو “جريمة مجتمعية”، هو فقط يعرف أنه يجب أن يعمل ليعيش. هنا تكمن المأساة؛ أن يتحول غير المقبول إلى عادي، والمرفوض إلى معتاد.
الطفولة ليست رفاهية، بل حق. والتعليم ليس خيارًا، بل ضرورة. وعندما يُترك طفل مثل يوسف لمصيره، فإن السؤال لا يجب أن يكون: “لماذا يعمل؟” بل: “لماذا سمحنا له أن يفقد طفولته؟”
ربما لا نملك حلولًا سحرية، لكننا نملك بداية: أن نرى يوسف، لا كاستثناء، بل كنداء.
حقيقي التقرير مؤثر جدا وبيدل على عبقرية الكاتبه بالتوفيق دايما يا صفصوفتي 😘💗💗💗