عزيزي القارئ، أعلم أن ما تراه من ضربات هنا وضربات هناك، صواريخ وتهديدات، وتصريحات لا حصر لها، وتوقعات سرعان ما تكذبها الوقائع أو تثبتها، كل هذه الأمور أصابتك بالذعر والتشتت.

لكن دعني أتحدث معك عن صراع أعمق مما تتناوله الوسائل الإعلامية، صراع أكثر خبثا إنه تآكل مفهوم “السيادة الوطنية” لبعض الدول، التي أصبحت أراضيها ومجالها الجوي مجرد ساحة حرب للدول المهيمنة على العالم.

سماء البلاد المخترقة

في هذه الأيام الأخيرة من شهر يونيو 2025، شهدت العديد من البلدان على رأسهم العراق وسوريا طائرات حربية أمريكية وإسرائيلية وإيرانية تحلق في سماء هذه البلدان، كما تم في الأجواء العراقية مثلا، التي تم استخدامها كممر لصواريخ “توماهوك” الأمريكية والتي استهدفت منشآت نووية في إيران، وكذلك الطائرات الإسرائيلية المتجهة لتنفيذ ضربات في إيران، ولتصدر الحكومة العراقية ما تصدر من بيانات إدانة لانتهاك السيادة، فمن الواضح على أرض الواقع أن هناك عجز تام عن منع هذه التعديات والانتهاكات.

الأمر ليس مجرد مرور جوي عزيزي القارئ، بل ما نسمعه ونراه من سقوط لشظايا صواريخ طائشة بمناطق مأهولة بالسكان، كما شاهدنا ببعض القرى الحدودية العراقية والسورية، إنما ينم عن أمن مواطن أصبح رهينة لصراع لا قرار لهم فيه، هذه الهشاشة في القرن الحادي والعشرين إنما تحتاج إلى إعادة تعريف لمعنى السيادة.

تحولات اليمن ولبنان في سياق الأزمة

جميعنا نعرف حروب الوكلاء في الشرق الأوسط، والتي هي ببساطة عزيزي دعم من القوى الكبرى لجماعات مسلحة لخدمة مصالحها، لكن هل هناك تغير يحدث في هذه الآونة المزدحمة بالأحداث المتلاحقة دعني أطرح عليك والحكم لك.

في اليمن، هدد الحوثيون فور الضربة الأمريكية على إيران بالرد على الأهداف الأمريكية بالمنطقة، كما توعد المتحدث العسكري باسم الحوثيين يحيى سريع باستهداف السفن الأمريكية في البحر الأحمر في حال اعتداء واشنطن على إيران إسنادا لإسرائيل، وهذا الموقف عزيزي القارئ هل تراه رد وكلاء أم أنه تحول من مجرد وكيل إلى مشعل للنيران ومعززا من احتمالات التصعيد؟!

الحكومة اليمنية هي حكومة معترف بها دوليا، ولها سيادة لكنها تقف عاجزة تماما عن السيطرة على جزء من أراضيها، ولا تستطيع أن تمنع استخدامها كساحة لتهديد الملاحة الدولية .

حزب الله المتواجد بلبنان، من المتوقع أن أي تصعيد إيراني إسرائيلي قد يدفعه للتحرك والمواجهة، وهو ما يعود بالضرر على لبنان، رغم محاولات الحزب للحفاظ على التوازن في خطابه إلا أنه لا يمكن فصله عن التوجيهات الإيرانية، وهو ما يُقوض سيادة لبنان على
أراضيها.

الخليج المضغوط

الخليج العربي وخاصة السعودية والإمارات، عزيزي القارئ كلانا نعلم أن كلا الدولتين حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية ولها قواعدها العسكرية، وجميعنا نعلم أهمية الدور الأمريكي في استقرار المنطقة.

في المقابل هذه الدول تعاني من إيران وتهديداتها كجماعة الحوثيين وهجماتهم على المنشآت النفطية مثلا، هذه الدول لم تعد تتخذ القرارات بناء على المصلحة الوطنية، بل باتت خاضعة لموازين القوى الدولية، الدول الواقفة على الحياد هي دول محاصرة بين مطرقة أمريكا وإسرائيل، وسندان إيران، وهو ما قد يدفع هذه الدول على اختيارات قد لا تكون في صالح استقلالهم وسيادتهم وهو ما يقوض سلطة الحكومات.

الشرق الأوسط الجديد

حرب إيران وإسرائيل، بما يتبعها من تداعيات بالمنطقة، هو تهديد صريح لمفهوم السيادة الوطنية بالشرق الأوسط، بينما نُركز نحن على الصراع المسلح، يتآكل استقلال الدول، وخطوط الحدود هذه التي تشكل الخرائط تصبح مجرد خطوط تشكلها القوى الكبرى، هذه الضغوط تطرح بعض الأسئلة أهمها هل سنرى شرق أوسط تعاد فيه ترسيم مناطق النفوذ بشكل علني، أم أنه سيولد مقاومة من شعوب هذه المنطقة التي من المفترض أن تكون قد سئمت من أن تصبح بلادها ساحة حرب لدول أخرى، كما أن تآكل السيادة هذا يثير تساؤلات حول مدى قدرة هذه الدول على الحفاظ على سيادتها، وأين المؤسسات الدولية التي من المفترض أن تحمي السيادة؟!

هذه الحرب ليست مجرد صراع بين الدول، إنما هو صراع تعريف لمفهوم الدولة نفسها.