“ربما كانت الشخصيات من الخيال، ولكن ثق أن الأماكن من الواقع.”

بهذه العبارة الافتتاحية عبّر المخرج الكبير محمد خان عن رؤيته السينمائية، إذ استهل بها فيلمه الشهير “خرج ولم يعد” إنتاج عام 1985.

تعكس هذه العبارة بدقة رؤية محمد خان للسينما، حيث كان يؤمن بالواقعية ويجعل من الأماكن والشخصيات مرايا تعكس المجتمع، وفي الوقت نفسه لم يتردد في خلق شخصيات من الخيال تشبهنا كثيرا، لكنها ليست نحن تماما.

جاء بالتغيير

في زمن كانت فيه السينما المصرية تميل إلى المبالغة أو تسعى وراء التسلية الخفيفة، جاء “محمد خان” كصوت مختلف ومتفرد.

واختار أن يسلك طريق الواقعية ولكن برؤية فنية خاصة جعلته واحدا من أبرز رموز “الواقعية الجديدة” في السينما المصرية.

كان ” خان ” فنانا يلتقط التفاصيل الصغيرة التي قد تمر دون أن يلاحظها الآخرون، ويخلق منها عوالم كاملة تقترب من قلب المشاهد ببساطة وصدق.

حيث تميزت أفلامه بصدق النظرة وعمق التناول، فكانت بمثابة مرآة شفافة تعكس المجتمع المصري بطبقاته المختلفة وتعبر عن تحولات الإنسان وهمومه اليومية.

ربما هناك واقع أجمل

رغم التمسك بالواقعية، لم يكن “خان” يعكس الواقع كما هو، ربما كان يبحث عن واقع آخر أكثر نقاء وإنسانية.

شخصياته غالبا ما كانت تبحث عن مخرج، عن لحظة هروب من الحياة القاسية، سواء عبر الحب، السفر، أو حتى عبر الخيال نفسه.

كان هذا الهروب بالنسبة له ليس هروبا سلبيا، بل وسيلة للتشبث بأمل بسيط يمنح الحياة معنى.

ذلك التوازن الفريد بين واقعية الحياة اليومية القاسية ومحاولات التمسك بالأمل، هو ما منح سينما محمد خان طابعا خاصا، وجعلها قريبة من القلوب، و قادرة على التعبير عن لحظات الصراع الإنساني بصدق وهدوء.

فهي تمنح المشاهد فرصة لرؤية نفسه في تفاصيل الحياة، وتدعوه للتفكير في إمكانية وجود واقع أجمل، مهما اشتدت الصعاب.

في واقعية “خان” لم تكن نسخة حرفية من الحياة بل كانت تصورا لما يمكن أن يكون، كما لو أنه كان يعيد تشكيل الواقع في صورته الأجمل، الأصدق، والأكثر صفاء.

لقد صنع سينما تشبه الحياة، ولكن من زاوية أكثر رحمة، ولهذا ظلت أعماله حاضرة في الذاكرة، تتجاوز حدود الزمان والمكان.

أبطال ليسوا أبطال

في فيلمه “خرج ولم يعد” مثلا، تبدأ الحكاية بشخصية “عطية” الموظف المطحون الذي تحاصره مطالب الزواج وضغوط الحياة، فيقرر الهروب من المدينة إلى الريف ليبيع أرضه، لكنه هناك يعثر على عالم مختلف، هادئ، نقي، مليء بالبساطة والدفء الإنساني، فيقع في الحب ويكتشف ذاته من جديد.

وفيلم “زوجة رجل مهم” يحكي قصة “منى”، فتاة تتزوج من ضابط شرطة يُدعى هشام، وتكتشف تدريجيا وجهه الحقيقي كشخص سلطوي وعنيف يسيء استخدام نفوذه، وتتحول حياتها إلى جحيم بسبب سلوكياته القمعية، ويُظهر الفيلم كيف يمكن للسلطة أن تفسد الإنسان وتدمر من حوله.

ويحكي فيلم “أحلام هند وكاميليا”، قصة خادمتين بسيطتين تربطهما صداقة قوية، تعانيان من الفقر وقسوة الحياة، وتحلمان بحياة أفضل لكن الظروف دائما تعاندهما.

بعد سلسلة من الإحباطات والمشاكل يحاولان التمرد على واقعهما والسعي لتحقيق أحلامهما، لكن الفقر والواقع الصعب يظل يلاحقهما.

وتدور قصة فيلم ” في شقة مصر الجديدة ” حول “نجوى” فتاة صعيدية تسافر من المنيا إلى القاهرة بحثا عن معلمة الموسيقى التي أثرت فيها في طفولتها والتي اختفت فجأة.

تبدأ رحلة بحثها في حي مصر الجديدة، وتقابل خلال رحلتها شابا يُدعى “يحيى” يساعدها في البحث.

يعتبر عطية في “خرج ولم يعد” ليس مجرد موظف حكومي بسيط، بل هو رمز للهروب من المدينة والضغط الاجتماعي نحو الصفاء والبساطة.

و”هند وكاميليا” ليستا فقط خادمتين تقاومان ظروفا صعبة، بل هما مرآة للمرأة المصرية المهمشة التي تحلم وتفشل وتنجو.

أما هشام في “زوجة رجل مهم” فهو ليس فقط ضابط شرطة قاسي القلب، بل نموذج للسلطة التي تأكل أصحابها.

ونجوى في ” شقة مصر الجديدة ” مثال عن البحث عن الأمل وسط زحام المدينة.

ف نجد شخصيات لا تنتمي إلى بطولات خارقة أو نهايات حالمة، بل هي شخصيات من لحم ودم، تعاني، وتحب، وتخطئ، وتحاول النجاة بطريقتها الخاصة.

لكنها رغم واقعية معاناتها، ليست بالضرورة شخصيات حقيقية أو مأخوذة من الواقع مباشرة، فهي تجسد صورة أقرب لما نتمنى أن نكونه أو لما نخشى أن نصل إليه، ولهذا فإن شخصياته رغم كونها من خياله، بدت لنا أكثر صدقا من كثير من الشخصيات الواقعية.

لذلك سيظل

ما يميز أفلام خان أيضا، أنه كان يصور الشوارع، البيوت، المقاهي، وحتى الأحياء الشعبية وكأنها شخصيات حية.

فهو من المخرجين الذين سعوا لكسر الصورة النمطية للسينما المصرية السائدة، فبدلا من تصوير الحكايات داخل الاستوديوهات، اختار أن ينزل بالكاميرا إلى الشوارع والأحياء الشعبية لإبراز التفاصيل الحقيقية للشارع المصري.

أما شخصياته، فغالبا ما تنتمي إلى الطبقة الوسطى أو الفقيرة، أولئك الذين يعيشون صراعات حقيقية بعيدا عن البطولات الزائفة.

هم أناس بسطاء ليسوا مثاليين يحملون في أعماقهم أحلاما صغيرة وبسيطة، كان “خان” يقدمهم بصدق بالغ يجعلنا نحبهم أحيانا، نشفق عليهم أحيانا، ونرى أنفسنا فيهم غالبا.

هو مخرج لم يكن يبحث عن الصخب أو الأضواء بل عن “الحقيقة”، واقعيته كانت مزيجا من صدق التجربة وحنين دائم إلى ما هو أجمل، أبسط، وأكثر صفاء.

ف لم يكن هروبه من الواقع هروبا سلبيا، بل ليفتح لنا أبوابا جديدة لرؤيته بعيون مختلفة.

ولهذا كان قادرا على خلق عالم سينمائي خاص به، نعرفه بمجرد أن نشاهده، ونشعر أننا نعيش فيه أو نريد أن نعيش.