“أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب”
حكمة شعبية مصرية راسخة، لطالما استُخدمت لتعكس بوضوح كيف يمكن للعداوة المشتركة أن تخلق تحالفات غير متوقعة، هذا المبدأ الذي يُعرف عالميًا بـ “عدو عدوي صديقي”، والذي لا يقتصر تأثيره على العلاقات بين الأفراد، بل يتجلى بوضوح في العلاقات السياسية المعقدة بين الدول.

لطالما رأينا في عرف السياسة بلدان أو قوى إقليمية كانتا بينهم عداوات تاريخية، وبسبب هدف أو مصلحة مشتركة أو حتى عدو مشترك أصبحا صديقين وبينهم علاقات، إلا أن هذه العلاقات وبالرغم مما تظهر عليه، فهي مؤقتة تزول بزوال تلك المصلحة أو الهدف، فكما قولنا في عرف السياسة لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة .

” المصالح بتتصالح “مثال آخر كان مدرس التاريخ دائما ما كان يذكره، يعكس نفس وجهة نظر “عدو عدوي صديقي” ، ولعل التحالف القائم بين الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي خير شاهد على ذلك.

فقبل تأسيس الاتحاد كانت المصالح المتقاربة هي الدافع الأول لهذا التقارب، وبعد التأسيس أدت تلك المصالح إلى إنشاء تحالفًا عسكريًا قويًا تمثل في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، لقد بُني هذا الحلف تحديدًا لمواجهة التوسع والنفوذ السوفيتي السابق، مدفوعًا بمنطق المصلحة المشتركة.

وعلى الجانب الآخر لم يغب عن الاتحاد السوفيتي منطق المصالح، فبادر هو الآخر إلى إنشاء حلف عسكري مناوئ وهو حلف وارسو، ليواجه به قوة حلف الناتو الصاعدة.

وأحيانا يكون الدافع الأول لهذا النوع من التحالفات هي فكرة ” العدو المشترك ” فما شكله هتلر من خطر على العالم أجمع، دفع مجموعة من الدول المختلفة في الأيدولوجيات ممثلة في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفيتي إلى عقد تحالف لمواجهة ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية .

انتهت الحرب العالمية الثانية، وانهزمت ألمانيا النازية ” العدو المشترك ” فسرعان ما تلاشى هذا التحالف، بمجرد زوال الدافع، وقامت الحرب الباردة بين تلك الدول العظمي، فمن كان صديق الأمس أصبح عدو اليوم، وإن دل ذلك على شئ، فإنما يدل على أن العلاقات والتحالفات بين الدول ليست دائمة وليست على وتيرة واحدة .

من خصمين لدودين يتقاسمون حدودًا شاسعة وحروبا تاريخية منذ عام 1969، تحولت روسيا والصين إلى شريكين استراتيجيين، وخاصة على مستوي العلاقات الاقتصادية، كان الدافع خلف هذا التحالف أيضا هي فكرة ” العدو المشترك ” المتمثل هنا في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك لمواجهة النفوذ الاقتصادي المتصاعد للولايات المتحدة وهيمنتها على النظام المالي العالمي، فبالنسبة لموسكو وبكين اللتين تتوجسان من سياسات واشنطن وتعتبرانها محاولة للضغط الاقتصادي والسياسي، وجدتا في التقارب الاقتصادي قوة موازنة لمواجهة الهيمنة الأمريكية .

لا تتوقف حكمة عدو عدوي صديقي على الدول والتحالفات الإقليمية فحسب، وإنما أيضا امتدت إلى الشعوب، فبعد أحداث السابع من أكتوبر، حدث تحولا إيجابيا في نظرة الشعوب العربية للصين لم يكن هذا التحول نابعًا من جهود صينية بقدر ما كان رد فعل على الدعم الأمريكي “القوي” لإسرائيل في حرب غزة، فمع تصاعد القصف تزايد الاستياء الشعبي العربي تجاه الولايات المتحدة ليجدوا في الصين، التي نُظر إليها كطرف محايد في هذا الصراع بديلًا.

وقد أكدت نتائج استطلاعات الرأي التي أجراها ” البارومتر العربي ” الصارخة هذا التحول، حيث انخفض التأييد للولايات المتحدة بشكل كبير خاصة في دول مثل تونس والأردن ولبنان والعراق، بينما ارتفع في المقابل التأييد للصين، هذه النتائج تشير بوضوح إلى أن الموقف الأمريكي المنحاز في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني قد دفع الرأي العام العربي نحو البحث عن قوى أخرى، ليصدق هنا المثل القائل “عدو عدوي صديقي”، وإن لم يكن ذلك بالضرورة عن قناعة تامة بالصين بقدر ما هو رفض لسياسات واشنطن.

أما عن تطبيع بعض الدول العربية علاقتها مع إسرائيل بدافع المصلحة المشتركة، فالأمر هنا مختلف وخاصة عن الغرب الذين يعتمدون البراغماتية وفكرة ” المصلحة ” في سياساتهم وعلاقاتهم، فعلى مستوي العالم العربي يُنظر إلى قيم ومعايير أخري بدرجة أعلى، كالدين والأخوة والتاريخ والكرامة، فالأمر مرفوض وخاصة إذا كان الأمر يتعلق بالقضية الأهم وهي القضية الفلسطينية .

والسؤال الأهم هنا هل سيستمر منطق ” عدو عدوي صديقي” في تشكيل العلاقات والتحالفات الدولية ؟ أم ستظهر متغيرات جديدة تعيد تشكيل تلك العلاقات ؟