
أنا صفا، طالبة في السنة الأخيرة بكلية الإعلام، وعلى بُعد خطوات من التخرج.
في الوقت الذي يفترض فيه أن أشعر بالحماسة تجاه مستقبلي المهني، أجدني غارقة في حيرة وجودية.
قبل أيام قليلة، كنت مع أصدقائي ونحن عائدين من الجامعة، وبينما كنا في المواصلات؛ داهمتنا صديقتنا “رحمة” بسؤال “ما خططكم بعد التخرج؟”.
كانت الإجابات متوقعة: فهناك من قال سأبحث عن عمل في الصحف، أو المواقع الإلكترونية، أو استكمال الدراسة وتحضير رسالة الماجستير، وحينما جاء دوري، قلت بهدوء: “أفكّر في الزواج، وفي تأسيس بيت، لا في العمل.”
بدت الدهشة واضحة على وجه صديقتي رحمة، وقالت باستنكار صادق: “وأين تكمن قيمتك إذن؟”، لم أجبها فورًا، لكن الإجابة ظلت بداخلي منذ ذلك اليوم، وظللت أفكر هل تقاس قيمة الإنسان بالوظيفة، أم بما يؤمن به من أدوار إنسانية نبيلة؟، هل هدفي بأن أصنع بيتًا سويًا، وأنشئ أطفالًا أسوياء، في زمن لم يعد يرى في الأمومة أو الاستقرار هو شئ مهدر لقيمتي؟.
هناك ماهو أعمق من مجرد نقاش عابر في مواصلة مزدحمة، ربما كان السؤال الذي طرحته رحمة هو شرارة، لكن الحريق الأكبر كان بداخلي، وتحديدا مع تجربتي العملية في الصحافة الميدانية، ضمن تكليفي بتغطية قسم الحوادث في إطار مشروعي للتخرج.
كنت أعتقد أن الأمر سيكون كما درسنا في المقررات الأكاديمية، أن الصحافة مرآة الواقع ونصرة المظلومين، كما أنها صوت المستضعفين، وحلقة الوصل بين الحكومة والشعب.
لكن جاءت الطامة الكبرى، حيث وجدت أن الصحافة الميدانية تتناول الألم وكأنه مجرد محتوى، وتقدم الضحايا في صيغة أرقام، وتتخذ المآسي وسيلة لتحقيق “الريتش”.
عندها فقط بدأت أتساءل… هل هذه هي الصحافة التي حلمت بها؟ هل هذا هو حلمي منذ نعومة أظافري ؟أم أنني كنت أبحث عن شيء آخر تمامًا؟
من الذي يحدد القيمة؟
يبدو أن خيار “الجلوس في البيت” بعد التخرج غير مقبول في مجتمعي، خاصة إذا كنت قد تخرجت من كلية يُنظر إليها باعتبارها “كلية قمة”.
حين أخبرت صديقتي أنني لا أنوي العمل في الصحافة بعد التخرج، وإنما أطمح لتأسيس أسرة صالحة، جاءت نظرات الاستغراب قبل الكلمات: “كنتِ بتدرسي أربع سنين ليه؟ ما كنتي دخلتي دبلوم وخلاص!”.
لم يكن حديثها بدافع السخرية، بل نابع من قناعة راسخة بأن الشهادة تُترجم تلقائيًا إلى وظيفة. لكنني لم أكن أبحث عن وظيفة، بل عن معنى أعيش من أجله.
بالنسبة لي، قيمة الإنسان ليست فقط في ما يقدّمه للمجتمع مهنيًا، بل أيضًا في ما يبنيه داخل دائرته الصغيرة، كأن ينشئ منزل مستقر، ويختار شريك حياة ناضج، وأطفال يتم تربيتهم عن وعي ومسؤولية.
هذا ما أراه هدفًا ساميًا، لا يقل شرفًا عن العمل العام.
القلم الحر في سطوة الترافيك
الآن أنا ممتنة لتجربة مشروع تخرجي؛ فقد كان بمثابة جرس إنذار لما سأجده على أرض الواقع، حين دخلت إلى هذا المجال، كنت أحمل في قلبي صورة الصحافة المثالية؛ التي تفتح نوافذ الحقيقة، وتدافع عن المظلومين، وتكسر الحواجز بين المجتمع والسلطة.
كنت أظن أنني سأكون جزءًا من عملية التغيير، سأروي القصص التي لم تُسمع من قبل، وأرفع صوت من لا صوت له.
لكن ما اكتشفته في الواقع كان مختلفًا تمامًا؛ فالهدف الأساسي للصحافة الآن هو تحقيق الريتش، وجذب المشاهدات على حساب القيم الإنسانية.
أثناء تغطيتي للحوادث، كنت أواجه مشاهد الألم والفقد، لكن كان هناك بعض الأشخاص يتعاملوا معها كأنها مجرد مادة جاهزة، فالأرقام، الأموات، والضحايا كانوا مجرد وقود للمحتوى، وكأن حياتهم وأحزانهم ليست إلا تفاصيل عابرة تُعرض على الشاشة لجذب أكبر عدد من المتابعين.
تذكرت الآن موقفا خلال تدريبي بأحد المواقع الإلكترونية في العام الماضي، حيث التحقت بقسم الحوادث، لأني كنت أطمح لتغطية هذا النوع من الصحافة.
ولكني وجدت أن رئيسة القسم أقرب بمريضة نفسية سادية، كانت تصف بكل برود أن حياتها بين المشرحة والمحكمة والأقسام، وكأنها تجد في الدماء نوع من الاعتياد المرعب، وكانت تصف بكل سادية أن اليوم الذي يمر دون أن يكون به جريمة قتل، فإن هذا اليوم يمر عليها كأنه”يوم أسود” على حسب وصفها.
بدأت أسأل نفسي: هل هذا هو الحلم الذي كنت أطمح إليه؟ هل كانت الصحافة بالنسبة لي أداة للنجاح والشهرة، أم أنها كانت وسيلة لإحداث التغيير؟ هل أنا فعلاً مستعدة لأن أكون جزءًا من هذا النظام الذي يجعل من الألم سلعة تجارية؟.
صفا ليست هنا
كل ما أعرفه الآن أنني لم أعد تلك “الصفا” التي دخلت كلية الإعلام بأحلام كبيرة وخطط واضحة.
ولا صرتُ بعدُ “الصفا” التي ستبني بيتًا هادئًا وتترك العالم خلفها.
أقف في المنتصف، لا أنتمي تمامًا لهذا ولا لذاك.
أراقب من بعيد الأصوات التي ترغمني بأن أكون شيئًا محددًا: صحفية طموحة، زوجة صالحة، امرأة ناجحة، أعتقد أن كل ما أحتاجه الآن هو أن أهدأ… أن أبحث عن نفسي، لا عن دورٍ أؤديه؟.
صفا ليست هنا… لكنني – رغم ذلك – في انتظارها.
تحففه يا صفصف اتمنى توصلي في الوقت المناسب ومتتعبيش من الانتظار
ربنااا يوفقك ويكرمك يروح قلبي 🥺🫂♥️♥️
تحفه
تحفه بجد وتقريبا ده ال بيدور ف عقلنا كلنا
تحفههههههه بجد