
لطالما كانت القضية الفلسطينية وما زالت هي حجر الزاوية في الوجدان العربي، فلا يمكن لأحد أن ينكر العداء التاريخي الذي نشأ بين إسرائيل والدول العربية منذ اليوم الأول لاحتلال هذا الكيان لأرض فلسطين.
هذا العداء لم يكن مجرد صراع عسكري، بل امتد ليشكل جزءا أساسيا من الهوية السياسية للمنطقة ويعيد رسم خريطة العلاقات في المنطقة بأسرها.
فمنذ النكبة عام 1948 وتأسيس إسرائيل لدولتها على أرض فلسطين، توالت فصول الحروب و العداء بينها وبين الدول العربية، وهو صراع اتخذ أبعادا قومية ووطنية وعقائدية متجذرة.

بعد سنوات طويلة من هذا الصراع، وتحديدا عقب انتصار الجيش المصري في حرب السادس من أكتوبر عام 1973، وبإبرام معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979، بدأت قضية تطبيع العلاقات تطفو على السطح بين الحين والآخر في ظل التطورات والتغيرات الإقليمية.
كانت هذه القضية دائما ما تثير جدلا واسعا بين الشعوب والمجتمعات العربية.
وعلى الرغم من معاهدات السلام التي عُقدت، ليس فقط مع مصر بل ومع الأردن أيضا، ظلت العلاقات هشة للغاية، صحيح أن حكومات تلك الدول تعاونت في مجالات مختلفة.
لكن هذا لم يغير من واقع أن السلام كان باردا، وظل رأي الشعوب ووجدان المجتمعات العربية ثابتا و راسخا على حالة العداء التاريخي هذه، فلم تتغير المشاعر ولا القناعات الأساسية.
تحولات إقليمية
في عام 2020، حدث تحول وتطور خطير في مجرى القضية، حيث تم تطبيع العلاقات بين إسرائيل وأربع دول عربية، وهي المغرب والسودان والبحرين والإمارات، تحت وساطة أمريكية خلال ولاية ترامب الأولى، لم يتوقف الأمر على إجراء سلام فحسب، وإنما حدثت أيضا تحولات في السياسة الأمريكية تجاه تلك الدول.
على سبيل المثال، اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على الصحراء الغربية المتنازع عليها، وإخراج السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
تسعى إسرائيل جاهدة لتطبيع علاقاتها مع الدول العربية، وذلك من خلال ما يعرف ب” اتفاقات أبراهام” ، والذي يعد من أهم شروطها إقامة سلام دافئ مع تلك الدول، وهو ما يخدم أهدافا استراتيجية إسرائيلية محددة.
وعلى رأس هذه الأهداف، يأتي سعيها لإقامة شراكة استراتيجية مع دول مثل الإمارات والبحرين، لصد خطر إيران والتي يمكن وصفها بالعدو المشترك.
كما تُعد هذه الصفقة إنجازا بالغ الأهمية لإسرائيل، حيث تسهم في تخفيف عزلتها الإقليمية، فالتاريخ يشهد أن حتى علاقات السلام التي أقامتها مع دول الجوار كمصر والأردن، لم تصل أبدا إلى مستوى السلام الدافئ.
وظل التوتر حاضرا بقوة على الحدود، وتستهدف إسرائيل أيضا من وراء هذه الاتفاقات تحقيق مزايا أمنية واقتصادية وتجارية متنوعة.
موقف الشعوب
تفعل الحكومات ما تشاء من دبلوماسية، ولكن يظل رأي الشعوب ثابتا كما هو على حالة العداء، فلا يزال الدم الفلسطيني والعربي ساكنا في وجدان الشعوب، يرفض أي سلام وأي وفاق ما دام لم تقم دولة فلسطينية وعاصمتها القدس.
جاءت أحداث السابع من أكتوبر 2023 (طوفان الأقصى) لتلقي بظلالها على المشهد، وتوضح كيف أثرت الأحداث على ثبات أو تغير نظرة الشعوب العربية لإقامة سلام مع إسرائيل.
فقدم موقع “الباروميتر العربي”، وهي شبكة بحثية مستقلة، نتائج استطلاع رأي شاركت فيه تسع دول عربية لعامي 2021 و2022، تبين أن فكرة التطبيع الدافئ مع إسرائيل كانت أكثر قبولا في المغرب (31%) والسودان (39%) بعد عام من توقيع اتفاقات أبراهام.
يرجع ذلك بشكل أساسي إلى مستوى التعليم العالي؛ ففي هذين البلدين كان المتعلمون جامعيا أكثر تأييدا للتطبيع، ربما لفهمهم الكامل للمزايا مثل تغيير السياسات الأمريكية تجاه الصحراء الغربية ورفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
في المقابل لم يكن لهذه الاتفاقات تأثير كبير في معظم الدول العربية الأخرى التي شملها الاستطلاع، حيث أيد التطبيع 11% أو أقل، باستثناء لبنان (17%) والعراق (14%) فارتبط الدعم المحدود هناك بفئات سكانية محددة كالمسيحيين في لبنان والأكراد في العراق.

نقطة فارقة
بعد أحداث 7 أكتوبر تغيرت آراء الناس بشكل كبير، ففي الدول العربية السبع التي شملها استطلاع الباروميتر العربي 2023-2024، لم يدعم التطبيع مع إسرائيل أكثر من 13% من المواطنين، بينما شهدت معظم هذه الدول تراجعا بسيطا في دعم التطبيع، والذي كان منخفضا بالأساس.
كان التغيير في المغرب واضحا جدا، حيث انخفضت نسبة دعم التطبيع هناك بشكل حاد من 31% إلى 13%، مما يعني أن المغاربة الآن لا يؤيدون التطبيع أكثر من العراقيين أو اللبنانيين.
لا شك أن هذا التغيير الكبير في المغرب يرتبط بشكل مباشر بـحرب غزة، فالمغاربة الذين وصفوا الحملة العسكرية الإسرائيلية بأنها “إبادة جماعية” أظهروا دعما للتطبيع بنسبة 9% فقط، بينما من وصفوها بأنها “نزاع” ظلوا يدعمون التطبيع بنسبة 31%، وهي نفس النسبة التي كانت سائدة قبل 7 أكتوبر.
أوضحت تلك النتائج أن أمل إقامة سلام دافئ مع إسرائيل، وإن بدا أنه ممكن، فقد تلاشى بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023 وبات شبه مستحيل، وحتى بعد ظهور مؤشرات لاحتمالية زيادة التطبيع مع دول عربية أخرى وإقامة سلام بينهم وبين إسرائيل، فإنه سيظل سلاما باردا، وسيظل ما في الذاكرة ثابتا كما هو.