
العلاقة بين الفن والمجتمع دائمًا ما تثير تساؤلات عديدة حول من يؤثر على الآخر، هل الفن هو الذي يُشكل وعي المجتمع ويعكس تطلعاته أم أن المجتمع بقيمه وثقافته هو الذي يوجه مسار الفن ويحدد ملامحه؟
فالفن كان ولا يزال مرآة تعكس الواقع الإجتماعي، السياسي، والثقافي؛ إذ يعبر عن قضايا الناس، وأفراحهم، ومعاناتهم، وأحلامهم، في الوقت ذاته، يلعب الفن دورًا محوريًا في تشكيل الرأي العام وإحداث تغييرات اجتماعية عميقة من خلال طرح أفكار جديدة حول قضايا شائكة.
سأحاول في هذا المقال الإجابة على هذا السؤال الجدلي من خلال توضيح العلاقة المتشابكة بين الفن والمجتمع، وكيف يؤثر كل منهما في الآخر. ولا يقتصر ذلك على نوع واحد من الفنون، بل يشمل مختلف الأشكال الفنية من الرسم والنحت إلى المسرح والسينما والتلفزيون والإذاعة وغيرها، حيث تلعب جميعها دورًا في تشكيل وعي الأفراد، لكنني سأركز هنا على السينما والتلفزيون، باعتبارهما من أكثر الفنون تأثيرًا في الجمهور.
لطالما ما كانت تسعى الأعمال الفنية لمناقشة القضايا والأحداث والمشكلات التي تواجه المجتمع، حيث ساهمت كثيرًا في نشر الوعي ورفع درجة الثقافة لدى المواطنين بل أيضًا في تغيير بعض القوانين على الرغم من كونها وسيلة للترفيه، لكنها كانت وسيلة لتحسين المجتمع وتغيير بعض سلوكياته الخاطئة وزيادة الإنتماء للوطن.
على سبيل المثال فيلم ” أرفض الطلاق ” بطولة ميرفت أمين وحسين فهمي وإخراج إنعام محمد علي، الذي تناول قضية تطليق الرجل لزوجته غيابيًا، نجح الفيلم في تسليط الضوء على هذه المشكلة الإجتماعية مما أدى إلى تعديل قانوني يُلزم بأن يكون الطلاق بأمر القاضي.
كذلك كان لفيلم جعلوني مجرمًا، من بطولة فريد شوقي وهدى سلطان ويحيى شاهين وإخراج عاطف سالم، دور مهم حيث ناقش معاناة أصحاب السوابق الإجرامية في الحصول على فرصة عمل شريفة تتيح لهم بدء حياة جديدة، وقد نتج عنه صدور قانون يعفي المخطئ من تسجيل السابقة الجنائية الأولى، ليمنحه فرصة ليبدأ حياته من جديد.
أما حديثًا فقد ثناول فيلم 678 بطولة ماجد الكدواني ونيللي كريم وبشرى وباسم سمرة وإخراج محمد دياب قضية التحرش الجنسي، وساعد في تفعيل مواد قانونية تُجرم التحرش وتغَلّظ العقوبات على مرتكبيه.
رغم هذا الدور المحوري الذي تلعبه السينما في تحسين و تشكيل وعي المجتمع إلا أن تأثيرها قد يكون سلبيًا في بعض الأحيان، فمع تصاعد معدلات العنف في الآونة الأخيرة، تم توجيه اتهامات عديدة إلى الأعمال السينمائية والتلفزيونية التي تروج لمشاهد البلطجة والعنف التي أثرت على المجتمع بشكل عام والمراهقين بشكل خاص.
ومن أبرز الأعمال التي أثارت جدلًا واسعًا في هذا السياق أفلام قلب الأسد، الألماني، وعبده موتة، التي قام ببطولتها الفنان محمد رمضان. فقد وُجهت إليها إتهامات بالترويج للعنف والبلطجة، خاصة مع تأثر بعض الفئات العمرية بهذه الشخصيات وتقليدها في المظهر والسلوك، وهو ما انعكس سلبًا على سلوكيات الشباب وأسهم في نشر ثقافة العنف داخل المجتمع.
وبرر صانعي ومنتجي هذه الأعمال، أنها تجسد وتنقل الواقع الموجود بالفعل في الشارع المصري دون الإنتباه إلى أن هذه الصورة التي يتم نقلها للمتلقي ليست الصورة الحقيقية في مختلف أنحاء جمهورية مصر العربية، بل أنها قد تكون في منطقة أو حي ما وليست بكل تأكيد في كافة المناطق والأحياء بصفة عامة.
يأتي هنا السؤال المحوري هنا كيف يتقاطع الفن مع حرية الإبداع والتعبير؟
في رأيي هذه المسألة كانت ولا تزال محل جدل واسع ولم يُحسم الخلاف حولها، ومن غير المرجح أن يُحسم في المستقبل القريب أو البعيد نظرًا لاختلاف وجهات النظر، حيث يرى الفنانون أن لهم الحق المطلق في الخيال والتعبير، بينما ترى بعض فئات المجتمع أن إطلاق حرية التعبير بلا ضوابط قد يؤدي إلى سلبيات، خاصةً أن الجمهور لا يمتلك مستوى موحدًا من الوعي والثقافة.
إذا عند تناول دور الفن في المجتمع تتعدد وجهات النظر حول طبيعته ووظيفته، فهناك من يرى أن الفن يحمل وظيفة نقدية، إذ يسعى إلى إظهار الإيجابيات والسلبيات تاركًا للمتلقي حرية استخلاص الدروس والعبر.
بينما يرى آخرون أن الفن يجب أن يُقدم صورة مثالية خالية من العيوب، ليكون نموذجًا يُحتذى به.
ويذهب فريق ثالث إلى أن الفن هو مجرد انعكاس للواقع، يعكس ما يجري في المجتمع بحيادية دون أن يتدخل في تغييره. وهذا هو الرأي الذي أميل إليه، ف الفن مرآة تعكس المجتمع بكل ما فيه دون تجميل، لكنه في الوقت نفسه يُتيح للمتلقي فرصة التفكير اتخاذ قراراته بناءًا على ما يستنبطه من العمل الفني.
ورغم من هذا الاختلاف، يتفق الجميع أن للسينما دورا كبيرا ومؤثرًا للغاية في تشكيل أفكار المجتمع سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
لذلك تقع على صناعة السينما مسؤولية كبيرة في استخدام قوتها لصالح المجتمع والأجيال القادمة، وذلك لأن الفئات الأقل تعليما وثقافة ليس لديها القدرة على معارضة ما يرونه، على عكس من يتمتعون بمستويات مرتفعة من التعليم ولديهم الكثير من الوعي الذي يمكنهم من مناقشة ما تطرحه الأعمال السينمائية.
وستظل السينما دائما في دائرة الإتهام من حين لآخر …