“أبي يظل يعاملني كطفلة حتى وأنا أعمل وأعيش وحدي كل محاولة للتعبير عن رأيي تتحول إلى خلاف”.

تقول سماح (23 عامًا)تعمل مدرسة بالحضانة، وهي تصف علاقتها بوالدها التي “تبدو أحيانًا وكأن كل منا يتحدث لغة مختلفة”.

في بيوت كثيرة، يتحول النقاش إلى صدام، والنصيحة إلى أوامر، والاهتمام إلى ضغط.

وبينما يحاول الآباء أن “يربوا” ابناءهم على ما نشأوا عليه، يسعى الابناء إلى الاستقلال، في عالم تغيّرت فيه القيم، وطغت عليه التكنولوجيا، وتلاشت فيه الحدود بين الأفراد والثقافات.

جيلان لا يتحدثان نفس اللغة

تشهد أغلب البيوت المصرية نقاشات مستمرة بين الآباء وابنائهم، تعكس اختلافا واضحًا في طريقة التفكير بين جيلين نشأ كل منهما في ظروف معيشية وتربوية مختلفة.

في كل حقبة زمنية تتسع الفجوة بين الأجيال المتعاقبة، ولكن في عصرنا الحالي، أصبحت هذه الفجوة أكثر عمقًا، وتحولت إلى نوع من العزلة التي يعيشها الطرفان تحت سقف واحد.

الآباء بطبيعتهم عاطفيون، يحملون أبناءهم في قلوبهم حتى بعد أن يكبروا، ولكن غالبا ما ينظر الابناء إلى هذه العاطفة باعتبارها نوعًا من السيطرة.

يسعى الابناء نحو الاستقلال والحرية، بينما يتمسك الآباء بدورهم التقليدي في التوجيه والحماية وفرض الرأي، مما يصنع صراعًا داخليا بين جيلين يتحدثان لغتين مختلفتين.

وفي محاولة لفهم حجم الفجوة وأسبابها، تم إجراء المقابلات مع بعض الأشخاص وتم إجراء استبیان شمل 85 مشاركًا من فئتي الآباء والابناء.

جاءت نتائجه كاشفة عن واقع العلاقات داخل البيوت المصرية.

أظهرت النتائج أن 31.9% فقط من الابناء يشعرون أن آباءهم يفهمون طموحاتهم وأفكارهم، بينما قال 69.1% إنهم لا يشعرون بأي تفهُّم.

واللافت أن أكثر نقاط الخلاف لم تكن دينية أو قيمية كما يُعتقد، بل حول الإنترنت والعلاقات الاجتماعية.

“هما شايفين إن قعدتي على الموبايل إدمان.. وأنا شايف ده شغلي وراحتي وكل حاجة”، يقول كريم (27سنة)، شاب يعمل في التسويق الإلكتروني.

كما تبيّن في تحليل النتائج للاستبيان، أن 72.4% من الابناء لا يشعرون بالقدرة الكاملة على التعبير عن أنفسهم أمام الأهل، سواء دائمًا أو أحيانًا، فيما أشار 27.6% أنهم لا يعبّرون عن مشاعرهم بأي وسيلة.

ورغم ذلك، يحاول 85% من الابناء التفاهم مع أهلهم، ولو بشكل جزئي.

لكن مشكلة التفاهم لا تكمن فقط في الحوار، بل في تباعد وجهات النظر بين الجيلين .

جيل الآباء عاش في واقع اجتماعي محافظ، يقدّس الطاعة، بينما يعيش الابناء في واقع سريع التغير، حيث تُقدَّم الحرية الفردية كقيمة عليا.

الآباء: نشعر بالغربة وسط أولادنا

“ابني بيقوللي متتصليش عليا لما اخرج مع اصحابي مع إنّي بسأل عليه من خوفي”، تقول أم محمود (56 سنة).

تعبّر عن شعور كثير من الآباء الذين شاركوا في الاستبيان، حيث رأى 66.7% منهم أن أكثر ما يزعجهم هو الإدمان على التكنولوجيا، يليه التمرّد على العادات (33.3%).

ورغم الفجوة، أبدى 80% من الآباء رغبتهم في فهم اهتمامات ابنائهم، ومحاولة التعلّم عن عالمهم ويحاولون تعلم اهتمامات ابنائهم، مثل ألعاب الفيديو والسوشيال ميديا كوسيلة للتقرب وفهمهم بشكل أفضل.

ورأى %85 من المشاركين من الآباء أن الحوار مع الابناء أصبح أصعب مما كان عليه في جيلهم، في حين قال 73.3% إن ابناءهم يعيشون واقعا مختلفًا تماما، بينما اعتبر 6.7% فقط أن الابناء “يبالغون”.

رأي الدين: لا تربية بلا علاقة إنسانية

في سياق متصل، أكد الدكتور نظير عياد، مفتي الجمهورية، أن العلاقة بين الوالدين والابناء هي الأساس في بناء الشخصية السوية، وأن “الفجوة داخل البيوت أدت إلى سلوكيات تتناقض مع القيم التي نشأنا عليها”.

وأوضح أن “أي تربية لا يمكن أن تنجح دون علاقة إنسانية قائمة على التفاهم، لا التسلّط”، داعيًا الآباء إلى استيعاب المتغيرات دون التنازل عن المبادئ.

هل هناك أمل لتقريب وجهتي النظر بين الآباء والابناء؟


رغم صعوبة المشهد، هناك بعض المؤشرات التي توحي أنه يمكن تقريب وجهتي النظر ومحاولة كليهما لتقريب وجهات النظر وتفهم بعضهم ويسعى الابناء لتفهم وجهة نظر آبائهم كما يسعى الآباء لتفهم والاستماع إلى ابنائهم.

وأوضح الاستبيان ان هناك نسبة من الابناء (53.2%) يفضلون التعبير بالكلام المباشر، مما يعني وجود رغبة في التواصل.

وهناك آباء يحاولون التكيف مع العالم الجديد، برغم صعوبة الموقف ولكنهم يبذلون أقصى ما فيه جهدهم للتكيف مع هذة الأوضاع الجديدة.

لكن العلاقة بين الجيلين لن تُرمَّم إلا حين يعترف كل طرف برأي الآخر ومناقشة هذة الآراء بهدوء ؛ وأن يفهم الأب أن ابنه ليس نسخة منه، وأن يدرك الابن أن وراء صرامة والده خوفًا وحبًا لا يُقال بالكلمات.

في النهاية، الفجوة حقيقية، لكنها ليست نهائية، و ما بين الصمت والانفجار، هناك دائمًا مساحة للإنصات.