
صراع مُحتدم يشهده الشرق الأوسط بين إسرائيل وإيران، فبين قذائف وصواريخ تتراوح هنا وهناك، توجد معركة من نوع آخر خفية لا تُرى بالعين المجردة، ولا تُسمع في نشرات الأخبار، رقمية بضغطة زر تُحدث شللا في الأنظمة، وتسرب بيانات حكومية، وتدمر ثقة الشعوب في دولها.
في عام 2025، لم تعد الحرب السيبرانية بين البلدين مجرد تكتيك جانبي، بل أصبحت جبهة مستقلة لا تقل قوة عن الصراع الميداني.
الهجوم السيبراني الإسرائيلي يحدث شلل في الدفاعات الإيرانية
في 13 يونيو، شنت إسرائيل هجوما سيبرانيا منسقا سبق غارة جوية كاسحة على منشآت إيرانية.
استخدم الهجوم اختراقات موجهة لرادارات ومنظومات الدفاع الجوي، مما أدى إلى تعطيل أنظمة الإنذار المبكر وتقليل قدرة إيران على التصدي للطائرات الحربية.
ووفق مصادر أمنية، قامت فرق الموساد بزرع قواعد سرية داخل إيران لتفعيل طائرات مسيرة عن بعد، في خطوة جسدت المزج بين العمليات السيبرانية والاستخباراتية، الهجوم التقليدي.
ضربات رقمية على الاقتصاد والإعلام الإيراني
تواصلت الهجمات الإسرائيلية خلال الأيام التالية، وتركزت على البنية التحتية الرقمية والمالية، فتم اختراق بنك “سِبه” الحكومي، وتسريب وثائق تتعلق بالحرس الثوري، فضلا عن اختراق قناة “IRIB TV” لبث رسائل تحريضية.
كما أُعلن عن سرقة أصول رقمية من منصة “نوبيتكس” بقيمة 90 مليون دولار، ضمن حملة هدفت إلى زعزعة النظام المالي الإيراني، وتأليب الداخل ضد السلطة، في انسجام مع الخطاب السياسي الإسرائيلي الداعي إلى تغيير النظام في طهران.
إيران تشعل حرب نفسية واختراقات استخبارية
في المقابل، سرعان ما ردت إيران بهجمات سيبرانية، استهدفت فيها الجبهة الداخلية الإسرائيلية بأساليب تضليل نفسي، شملت نشر تحذيرات كاذبة عن هجمات وشيكة لتعزيز حالة الذعر في الشارع الإسرائيلي، وانتحال صفة جهات أمنية إسرائيلية.
إلى جانب ذلك، أعلنت طهران امتلاكها وثائق سرية من منشآت إسرائيلية، يرجع مصادرها إلى اختراقات سيبرانية سابقة استهدفت مراكز أبحاث نووية، من أبرزها مركز سوريك.
هجمات دقيقة واستنزاف رقمي متصاعد
تطورت الهجمات الإيرانية إلى عمليات تجسس دقيقة، استهدفت مسؤولين إسرائيليين عن طريق رسائل توظيف وهمية عبر تطبيقات المراسلة ونشرت مجموعات مرتبطة بإيران، مثل “حنظلة”، عدة تسريبات ضخمة لشركات إسرائيلية في قطاعات النفط، الإنترنت، والعلوم.
ورغم الطبيعة اللامركزية لبعض هذه الهجمات، فإنها أظهرت تصعيدا في نوعية الأسلحة الرقمية المستخدمة، وسط تحذيرات من أن هذه الحرب الخفية قد تُحدث تحولات ميدانية لا تقل خطورة عن الانفجارات على الأرض.
لماذا تحولت الحرب السيبرانية إلى أداة رئيسية في الصراع؟
لم يعد استخدام الهجمات السيبرانية بين إيران وإسرائيل مجرد خيار تكتيكي أو ردع مؤقت، بل أصبح جزءا مركزيّا من إستراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى إضعاف الخصم بأقل تكلفة سياسية وعسكرية.
ففي عالم تُدار فيه البنى التحتية، والاقتصاد، وحتى ثقة الشعوب بأنظمتها عبر أنظمة رقمية معقدة، أصبحت الهجمات السيبرانية سلاحا مثاليا يصعب تتبعه، منخفض التكلفة، وفعال في خلق اضطرابات واسعة دون الحاجة لإطلاق رصاصة واحدة.
تستخدم إسرائيل هذه الهجمات كأداة مزدوجة من جهة، تسبق الهجمات الجوية أو توازيها لتفكيك أنظمة الدفاع والإنذار، ومن جهة أخرى، للتأثير على الرأي العام الإيراني عبر ضرب المؤسسات المالية والإعلامية، وزرع رسائل تحريضية.
في المقابل، ترى إيران في الفضاء السيبراني ساحة مرنة لتعويض تفوق إسرائيل العسكري، وتستخدمه لاختراق النخب السياسية والعسكرية الإسرائيلية، وبث الذعر في نفوس المواطنين الإسرائيليين، وجمع بيانات تُوظف لاحقا في عمليات دقيقة ميدانية أو استخباراتية.
لقد أصبحت الحرب السيبرانية، بالنسبة للطرفين، ساحة لا تقل أهمية عن الميدان، حيث تخاض فيها معارك غير مرئية لكنها قادرة على تغيير معادلات الصراع في لحظة واحدة.
صراع رقمي ممتد من ستاكسنت إلى الضربات الرقمية المتبادلة
انطلقت أولى شرارات الحرب السيبرانية بين إيران وإسرائيل مع الهجوم الشهير فيروس “ستاكسنت” عام 2010، والذي اعتُبر نقطة تحوّل في تاريخ الحروب الحديثة.
ويعد هذا الهجوم نتيجة تعاون بين الاستخبارات الإسرائيلية والأميركية استهدف فيه منشأة نطنز النووية الإيرانية، ونجح في تخريب مئات من أجهزة الطرد المركزي، مما مثّل أول استخدام فعلي لسلاح سيبراني يسبب ضررا ماديا ملموسا.
لم يكن هذا الفيروس مجرد عملية اختراق رقمية، بل بداية لحقبة هجومية جديدة في الصراع الإسرائيلي الإيراني تستخدم فيه إسرائيل التكنولوجيا لإبطاء برامج إيران النووية دون إطلاق صاروخ واحد.
منذ ذلك التاريخ، أخذ الصراع السيبراني منحى تصاعديا، لم يعد يقتصر على المنشآت النووية، بل امتد ليشمل القطاعات المالية، والإعلامية، والبنية التحتية.
على الجانب الآخر لم تقف إيران، مكتوفة الأيدي، أمام الهجمات الإسرائيلية، بل طورت بسرعة أدواتها السيبرانية، معتمدة على فرق قرصنة مرتبطة بالحرس الثوري وأجهزة الاستخبارات، مثل APT33 وAPT34 وAPT42، لتنفيذ عمليات تجسس واختراق في عمق المؤسسات الإسرائيلية.
لم تعد الحرب السيبرانية صراعا في الظل، بل أصبحت ساحة مركزية يُعاد فيها رسم ميزان القوى، فبين ضغطة زر واختراق صامت، يتغير شكل الحروب، وتُعاد كتابة قواعد الاشتباك، لم يعد الانتصار مرهونا بخرائط الجغرافيا، بل بمن يتحكم في مفاتيح الشبكة و يستطيع إطفاء الضوء أولا.