في كل عيد، يتكرر المشهد نفسه في البيوت المصرية والعربية، شاشة التلفزيون تعرض مسرحية “العيال كبرت”، والضحكات تنطلق من القلوب قبل الشفاه، نضحك وكأنها المرة الأولى، نحفظ الجمل ونعيد المشاهد.

تلك المسرحية لا تعتبر مجرد عرض كوميدي، بل هي انعكاسًا لعصر كان فيه المسرح جزءًا من حياتنا، ومن ثقافتنا.

منذ أن أُنشئ المسرح لم يكن مجرد وسيلة للترفيه، بل كان مدرسة للثقافة والتنوير، ومسرحًا ومرآه حقيقية للحياة بكل أبعادها.

في مصر تحديدًا، كان المسرح لسنوات طويلة هو القلب النابض للوعي المجتمعي، والاختيار الأول لمن يبحث عن المتعة الفكرية والجمالية معًا.

فقد كان المسرح من أوائل الفنون الترفيهية والتثقيفية التي عرفها الشعب المصري، واستطاع المسرح أن يسهم في تشكيل وعي المصريين وتطوير أفكارهم، وكان سببا مباشرا في غرس حب الفن والتمثيل في قلوب الجماهير.

كان ياما كان

كان العرض المسرحي سابقاً في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، خليطًا ساحرًا من التمثيل والغناء والموسيقى والرقص، فتخرج منه وأنت تحمل في قلبك فكرة وفي أذنك لحنًا وفي عقلك سؤالًا.

لم يكن الجمهور يذهب فقط ليشاهد مسرحية، بل ليحضر تجربة فنية متكاملة تثير وجدانه وتحرك خياله.

في تلك الفترة كانت الجماهير، من مختلف الطبقات، تتدفق على مسارح القاهرة والإسكندرية والأقاليم لمشاهدة العروض التي لم تكن تتوقف، ما بين الكوميدي والتراجيدي والملحمي والمسرح الغنائي والاستعراضي وغيرها الكثير.

وكانت الأسماء اللامعة مثل يوسف وهبي، وسيد درويش، وسميحة أيوب، وزكي طليمات، وزكي رستم تتصدر المشهد، وتقدم أداء مسرحي يجمع بين الرقي والموسيقى العذبة والنصوص العميقة.

ومع مرور الزمن، انتقل المسرح المصري في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات إلى مرحلة جديدة، حيث حافظ على مكانته في قلوب الجماهير رغم تغير الأذواق والظروف الاجتماعية.

في ذلك الوقت، ازدهرت الكوميديا المسرحية بشكل لافت وظهرت أعمال خالدة لا تزال محفورة في الذاكرة حتى اليوم، منها مسرحية “سيدتي الجميلة” التي أبدع فيها فؤاد المهندس وشويكار بأداء يمزج بين الفكاهة والرقة.

ومسرحية “العيال كبرت” التي ضمت نجومًا مثل سعيد صالح، وأحمد زكي، ويونس شلبي، وكريمة مختار، وحسن مصطفى، ونادية شكري، وعرضت بأسلوب ساخر مشكلات الأسرة المصرية.

ولا يمكن الحديث عن تلك الفترة دون ذكر مسرحية “مدرسة المشاغبين”، التي أحدثت ضجة واسعة.

كما قدم الزعيم “عادل إمام” عددًا من المسرحيات التي نالت إعجاب الجمهور بشكل كبير منها مسرحية “الزعيم”، التي حملت نقدًا سياسيًا واجتماعيًا في قالب كوميدي جذاب.

كانت هذه الأعمال تجسد نبض الشارع المصري وتعبر عن همومه وأحلامه، فصار المسرح وجهة للضحك، والتفكير، والهروب من صخب الحياة اليومية، دون أن يفقد رسالته العميقة أو تأثيره.

حال المسرح اليوم

المسرح منذ وقت قريب لم يكن هناك ما ينافسه على قلوب الجماهير، لا سينما ولا إذاعة، فالمسرح كان فعلاً “أبو الفنون”، وكان العرض المسرحي حدثًا اجتماعيًا مهمًا يُنتظر بفارغ الصبر، تمامًا كما يُنتظر عرض فيلم اليوم.

ورغم أن المسرح ظل لعقود طويلة يُلقب بـ”أبو الفنون” واحتل مكانة رفيعة في المجتمع المصري، إلا أن حاله اليوم يطرح الكثير من علامات الاستفهام.

ما الذي أوصل المسرح إلى هذا الحال؟ أين ذهب وهج المسرح الذي كان يملأ القاعات بالتصفيق والضحك؟ لماذا أصبحت العروض المسرحية قليلة؟ وهل ما زال المسرح قادرًا على مخاطبة الإنسان الآن وسط زحام السوشيال ميديا والمنصات الرقمية؟

محاولة إحياء

شهدت السنوات الماضية بعض المحاولات المتواضعة لإعادة إحياء مكانة المسرح واستعادة جمهوره، ولعل أبرز هذه المحاولات وأكثرها نجاحًا في الوصول إلى الجمهور كانت تجربة “تياترو مصر” الذي تغير اسمه بعد ذلك ليصبح ” مسرح مصر ” والذي حظي بقبول جماهيري واسع ونجح في جذب شريحة كبيرة من المشاهدين.

ومع ذلك، فإن هذا النجاح الجماهيري لا يعبر عن قيمة فنية حقيقية، إذ اتسمت العروض بالمبالغة في الاستظراف والاعتماد على النكتة السريعة والمواقف الكوميدية السطحية التي تهدف فقط إلى الإضحاك اللحظي، دون تقديم مضمون مسرحي عميق أو رؤية فكرية واضحة.

كما أن اعتماده على سيناريوهات أشبه بالاسكتشات المنفصلة يجعل من الصعب اعتبار هذه التجربة نموذجًا يُحتذى به في إحياء المسرح، بقدر ما يمكن تصنيفها كعرض ترفيهي تلفزيوني بعيد عن جوهر العمل المسرحي الأصيل.

وهو الأمر الذي ساهم في ترسيخ صورة باهتة للمسرح لدى الجيل الجديد من الجمهور.

ويمكن تلخيص حال المسرح اليوم بقول الفنان الراحل فؤاد المهندس: “المسرح مش بس ضحك، المسرح تربية وتعليم وفن ورسالة… لكن للأسف، الناس دلوقتي نسيوا ده.”

أسباب وحلول

تعدّدت الأسباب التي ساعدت على وصول المسرح إلى الحال الذي هو عليه اليوم، بعد أن كان يُلقّب بـ”أبو الفنون” ويتصدر المشهد الفني في المجتمع.

من وجهة نظري أبرز هذه العوامل، أن بعض صناع المسرح يعتمدون على نصوص مستهلكة أو نصوص لا تواكب تطلعات الجمهور ولا تعكس همومه اليومية مما أدى إلى فقدان الثقة بين المسرح والمتلقي.

وأيضاً أحد العوامل الرئيسية الأخرى ضعف الإنتاج، أو عدم وجود أحد مهتم بإنتاج عمل مسرحي.

حيث أن إنتاج مسرحية متكاملة تتطلب ميزانية ضخمة تضمن خروج العمل في أفضل صورة ممكنة عند العرض، فالأمر يبدأ باستئجار مسرح حديث مجهز تقنيًا، ودفع أجور طاقم العمل من ممثلين وفنيين، ولا يمكن إغفال أهمية تصميم وتنفيذ الديكورات التي تضيف للعرض بعدًا بصريًا وجماليًا.

كما ساهمت وسائل الإعلام المعاصرة مثل التلفزيون، ومن ثم المنصات الرقمية التي تقدم محتوى ترفيهيًا أسرع وأسهل وصولًا، في تراجع الإقبال على المسرح التقليدي، إذ أصبحت الخيارات الترفيهية متاحة في أي وقت ومن أي مكان، مما قلل من دور المسرح كوسيلة رئيسية للترفيه والتواصل مع الجمهور.

لذلك، إذا كان هناك رغبة حقيقية في إنقاذ المسرح واستعادة مكانته، فعلى المسؤولين إعادة النظر في سياسات الدعم والتمويل، والاهتمام بجودة النصوص والسيناريوهات.

إلى جانب ابتكار أساليب جديدة للترويج للعروض المسرحية عبر وسائل الإعلام الحديثة، بما يضمن وصولها إلى الأجيال الجديدة وجذب اهتمامهم من جديد.

استغاثة

يبدو أن المسرح اليوم يطلق صرخته الأخيرة في وجه التجاهل والنسيان، وكأنه يستغيث بمن يعيد له نبضه القديم وبريقه الذي تلاشى خلف أضواء الشاشات وضجيج المنصات الرقمية.

إننا أمام فن يحتضر بصمت، بعدما كان يومًا مرآة المجتمع.

إن المسرح لا يطلب الكثير، فقط أن يُمنح فرصة للحياة من جديد، ليعود كما كان: مساحة للتفكير، وساحة للحوار، ومنبرًا للوعي.

فهل من مُنقذ يعيد إلى الخشبة هيبتها؟ وهل من يد تمتد لتنتشل هذا الفن العريق من مستنقع التهميش والسطحية؟